.تفسير الآية رقم (81):
{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}.ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ آتَى أَصْحَابَ الْحِجْرِ- وَهُمْ ثَمُودُ- آيَاتِهِ فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. وَالْإِعْرَاضُ: الصُّدُودُ عَنِ الشَّيْءِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ. كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ- بِالضَّمِّ- وَهُوَ الْجَانِبُ؛ لِأَنَّ الْمُعْرِضَ لَا يُوَلِّي وَجْهَهُ، بَلْ يَثْنِي عِطْفَهُ مُلْتَفِتًا صَادًّا.وَلَمْ يُبَيِّنْ- جَلَّ وَعَلَا- هُنَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي آتَاهُمْ، وَلَا كَيْفِيَّةَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الَّتِي آتَاهُمْ: تِلْكَ النَّاقَةَ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ لَهُمْ. بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ فِي النَّاقَةِ الْمَذْكُورَةِ آيَاتٍ جَمَّةً: كَخُرُوجِهَا عُشَرَاءَ، وَبْرَاءَ، جَوْفَاءَ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، وَسُرْعَةِ وِلَادَتِهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا، وَعِظَمِهَا حَتَّى لَمْ تُشْبِهْهَا نَاقَةٌ، وَكَثْرَةِ لَبَنِهَا حَتَّى يَكْفِيَهُمْ جَمِيعًا، وَكَثْرَةِ شِرْبِهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [26/ 155]، وَقَالَ:
{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [54/ 28].فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يُبَيِّنُ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} [15/ 81]، قَوْلُهُ:
{فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [26/ 154- 155]، وَقَوْلُهُ:
{قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} الْآيَةَ [7/ 73]. وَقَوْلُهُ:
{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [17/ 59]. وَقَوْلُهُ:
{إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [54/ 27]، وَقَوْلُهُ:
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [11/ 64]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَبَيَّنَ إِعْرَاضَ قَوْمِ صَالِحٍ عَنْ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ:
{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [7/ 77]، وَقَوْلِهِ:
{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} الْآيَةَ [11/ 65]. وَقَوْلِهِ:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [91/ 11- 14]، وَقَوْلِهِ:
{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [54/ 29]. وَقَوْلِهِ:
{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [17/ 59]، وَقَوْلِهِ:
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} الْآيَةَ [26/ 185- 186]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ}.ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْحِجْرِ- وَهُمْ ثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ- كَانُوا آمِنِينَ فِي أَوْطَانِهِمْ، وَكَانُوا يَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا.وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [26/ 147- 149]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} الْآيَةَ [7/ 74]، وَقَوْلِهِ:
{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [89/ 9]، أَيْ: قَطَعُوا الصَّخْرَ بِنَحْتِهِ بُيُوتًا.
.تفسير الآية رقم (85):
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}.ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ؛ أَيْ: لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ يُكَلِّفُ الْخَلْقَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا وَلَا بَاطِلًا. وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ:
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [38/ 27]، وَقَوْلِهِ:
{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [3/ 191]، وَقَوْلِهِ:
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} الْآيَةَ [44/ 38- 39]، وَقَوْلِهِ:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [23/ 115- 116]، وَقَوْلِهِ:
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [53/ 31]، وَقَوْلِهِ:
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [75/ 36- 37] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ}.ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ الَّذِي هُوَ إِنَّ، وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ الَّتِي تُزَحْلِقُهَا إِنَّ الْمَكْسُورَةُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ إِلَى الْخَبَرِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ:أَحَدُهُمَا: إِتْيَانُ السَّاعَةِ لَا مَحَالَةَ.وَالثَّانِي: أَنَّ إِتْيَانَهَا أَنْكَرَهُ الْكُفَّارُ؛ لِأَنَّ تَعَدُّدَ التَّوْكِيدِ يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْخَبَرِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي.وَأَوْضَحَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ. فَبَيَّنَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ:
{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [20/ 15]، وَقَوْلِهِ:
{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [22/ 7]، وَقَوْلِهِ:
{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} الْآيَةَ [22/ 1- 2]، وَقَوْلِهِ:
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} الْآيَةَ [45/ 32]، وَقَوْلِهِ:
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [30/ 12]، وَقَوْلِهِ:
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [30/ 55]، وَقَوْلِهِ:
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [7/ 178]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.وَبَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- إِنْكَارَ الْكُفَّارِ لَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [34/ 3]، وَقَوْلِهِ:
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [64/ 7]، وَقَوْلِهِ:
{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [44/ 34- 35]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}.أَمَرَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَصْفَحَ عَمَّنْ أَسَاءَ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ؛ أَيْ: بِالْحِلْمِ وَالْإِغْضَاءِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّفْحُ الْجَمِيلُ: الرِّضَا بِغَيْرِ عِتَابٍ. وَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْمَلُ حِكْمَةَ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ قُدْوَتُهُمْ وَالْمُشَرِّعُ لَهُمْ.وَبَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ:
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [43/ 89]،وَقَوْلِهِ:
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [25/ 63]، وَقَوْلِهِ:
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [28/ 55]، وَقَوْلِهِ:
{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} الْآيَةَ [2/ 109]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا الْأَمْرُ بِالصَّفْحِ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: هُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ حُسْنُ الْمُخَالَفَةِ، وَهِيَ: الْمُعَامَلَةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ.قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَالْخُلُقُ: السَّجِيَّةُ، يُقَالُ: خَالِصِ الْمُؤْمِنَ، وَخَالِقَ الْفَاجِرَ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}.ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. وَالْخَلَّاقُ وَالْعَلِيمُ: كِلَاهُمَا صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ.وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ الْخَلَّاقُ بِكَوْنِهِ خَلَّاقًا إِلَّا وَهُوَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِذِ الْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْلُقَهُ.وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [36/ 79]، وَقَوْلِهِ:
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [67/ 14]، وَقَوْلِهِ:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [2/ 29]، وَقَوْلِهِ:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [65/ 12]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُجِيبًا لِلْكُفَّارِ لَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَقَالُوا:
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [50/ 3]، مُبَيِّنًا أَنَّ الْعَالِمَ بِمَا تَمَزَّقَ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ:
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [50/ 4]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
.تفسير الآية رقم (87):
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَتَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمُرَادَ بِذَلِكَ.وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ إِنْ كَانَ لَهَا بَيَانٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ، أَنَّنَا نُتَمِّمُ ذَلِكَ الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ، فَنُبَيِّنُ الْكِتَابَ بِالسُّنَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ الْمُبِينِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: هُوَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. فَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ مُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَإِنَّمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ بِإِيضَاحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُصَلِّي، فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ فَقَالَ:
«مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟» فَقُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ:
«أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [8/ 24]، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ، فَذَكَّرْتُهُ، فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [1/ 2]، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ». حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ».فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا السَّبْعُ الطِّوَالُ، غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا كَلَامَ لِأَحَدٍ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ: أَنَّ آيَةَ الْحِجْرِ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ، وَأَنَّ السَّبْعَ الطِّوَالَ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.وَقِيلَ لَهَا: مَثَانِي؛ لِأَنَّهَا تُثَنَّى قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ.وَقِيلَ لَهَا: سَبْعٌ؛ لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ.وَقِيلَ لَهَا: الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ؛ كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَذْكُورِ آنِفًا.وَإِنَّمَا عَطَفَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَلَى السَّبْعِ الْمَثَانِي، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ؛ لِمَا عُلِمَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إِذَا ذُكِرَ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ جَازَ عَطْفُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، تَنْزِيلًا لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّوَاتِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [87/ 4]، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ** وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ.
.تفسير الآية رقم (88):
{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ}.لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَذَلِكَ أَكْبَرُ نَصِيبٍ، وَأَعْظَمُ حَظٍّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى،نَهَاهُ أَنْ يَمُدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّذِي مَتَّعَ بِهِ الْكُفَّارَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ رَبُّهُ- جَلَّ وَعَلَا- النَّصِيبَ الْأَكْبَرَ وَالْحَظَّ الْأَوْفَرَ، لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى النَّصِيبِ الْأَحْقَرِ الْأَخَسِّ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ إِنَّمَا أُعْطِيهِ لِأَجْلِ الْفِتْنَةِ وَالِاخْتِبَارِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ فِي طه:
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [20/ 130- 132]، وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ هُنَا: الْأَصْنَافُ مِنَ الَّذِينَ مَتَّعَهُمُ اللَّهُ بِالدُّنْيَا.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}.الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُزْنِ عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. كَقَوْلِهِ:
{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [16/ 127]، وَقَوْلِهِ:
{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [35/ 8]، وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَقَوْلِهِ:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [18/ 6]، وَقَوْلِهِ:
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [5/ 68]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَالْمَعْنَى: قَدْ بَلَّغْتَ وَلَسْتَ مَسْئُولًا عَنْ شَقَاوَتِهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ، فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا أَشْقِيَاءَ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}.أَمَرَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَخَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةٌ عَنْ لِينِ الْجَانِبِ وَالتَّوَاضُعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ ** فَلَا تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلَاوَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ فِي الشُّعَرَاءِ:
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [26/ 215]، وَكَقَوْلِهِ:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [3/ 159] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَيُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ- أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهَا- أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْفَضُ لَهُمُ الْجَنَاحُ، بَلْ يُعَامَلُونَ بِالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ.وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَفْهُومَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [9/ 73 وَ66/ 9]، وَقَوْلِهِ:
{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [48/ 29]، وَقَوْلِهِ:
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [5/ 54]، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمَائِدَةِ.
.تفسير الآية رقم (90):
{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}.فِي الْمُرَادِ بِالْمُقْتَسِمِينَ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ مَعْرُوفَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، إِلَّا أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةً تُضَعِّفُ بَعْضَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ:الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقْتَسِمِينَ: الَّذِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَمُخَالَفَتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ فَالِاقْتِسَامُ افْتِعَالٌ مِنَ الْقَسَمِ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّقَاسُمِ.وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُرْشِدُ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ:
{قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} الْآيَةَ [27/ 49]، أَيْ: نَقْتُلُهُمْ لَيْلًا، وَقَوْلُهُ:
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [16/ 38]، وَقَوْلُهُ:
{أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [14/ 44]، وَقَوْلُهُ:
{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [7/ 49]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُكَذِّبُونَ بِشَيْءٍ إِلَّا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ؛ فَسُمُّوا مُقْتَسِمِينَ.الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقْتَسِمِينَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَإِنَّمَا وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ مُقْتَسِمُونَ؛ لِأَنَّهُمُ اقْتَسَمُوا كُتُبَهُمْ فَآمَنُوا بِبَعْضِهَا وَكَفَرُوا بِبَعْضِهَا.وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} الْآيَةَ [2/ 85]، وَقَوْلُهُ:
{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} الْآيَةَ [4/ 150].الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقْتَسِمِينَ: جَمَاعَةٌ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ اقْتَسَمُوا الْقُرْآنَ بِأَقْوَالِهِمُ الْكَاذِبَةِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ شِعْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ سِحْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَهَانَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وَهَذَا الْقَوْلُ تَدُلُّ لَهُ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ تِلْكَ الْأَقْوَالَ الْمُفْتَرَاةَ الْكَاذِبَةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [69/ 41- 42]، وَقَوْلِهِ:
{فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [74/ 24]، وَقَوْلِهِ:
{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [38/ 7]، وَقَوْلِهِ:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [16/ 24]، وَقَوْلِهِ:
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [25/ 5] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّالِثَ، وَلَا تُنَافِي الثَّانِيَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [15/ 91] أَظْهَرُ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ؛ لِجَعْلِهِمْ لَهُ أَعْضَاءَ مُتَفَرِّقَةً بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَقْوَالِهِمُ الْكَاذِبَةِ، كَقَوْلِهِمْ: شِعْرٌ، سِحْرٌ، كَهَانَةٌ، إِلَخْ.وَعَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ: فَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ كُتُبُهُمُ الَّتِي جَزَّؤُوهَا، فَآمَنُوا بِبَعْضِهَا وَكَفَرُوا بِبَعْضِهَا، أَوِ الْقُرْآنُ؛ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا وَافَقَ هَوَاهُهُمْ مِنْهُ وَكَفَرُوا بِغَيْرِهِ.وَقَوْلُهُ:
{عِضِينَ} [15/ 91] جَمْعُ عِضَةٍ، وَهِيَ الْعُضْوُ مِنَ الشَّيْءِ، أَيْ: جَعَلُوهُ أَعْضَاءَ مُتَفَرِّقَةً. وَاللَّامُ الْمَحْذُوفَةُ أَصْلُهَا وَاوٌ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اللَّامُ الْمَحْذُوفَةُ أَصْلُهَا هَاءٌ، وَعَلَيْهِ فَأَصْلُ الْعِضَةِ عِضْهَةٌ. وَالْعَضَهُ: السِّحْرُ؛ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: جَعَلُوا الْقُرْآنَ سِحْرًا؛ كَقَوْلِهِ:
{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [74/ 24]، وَقَوْلِهِ:
{قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [28/ 48]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّاحِرَ عَاضِهًا، وَالسَّاحِرَةَ عَاضِهَةً. وَالسِّحْرَ عِضَهًا. وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَعُوذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا ** تِ فِي عُقَدِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ.تَنْبِيهٌ.فَإِنْ قِيلَ: بِمَ تَتَعَلَّقُ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ:
{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}؟ [15/ 90].فَالْجَوَابُ: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: كَمَا أَنْزَلْنَا؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ:
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ} [15/ 87]، أَيْ: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، حَيْثُ قَالُوا بِعِنَادِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ: بَعْضُهُ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لَهُمَا، فَاقْتَسَمُوهُ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَعَضُّوهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ لِي، وَيَقُولُ الْآخَرُ: سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ لِي، إِلَى أَنْ قَالَ: الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ:
{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [15/ 89]، أَيْ: وَأَنْذِرْ قُرَيْشًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَاهُ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ يَعْنِي الْيَهُودَ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. جَعَلَ الْمُتَوَقَّعَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ وَهُوَ مِنَ الْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِمَا سَيَكُونُ وَقَدْ كَانَ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْكَشَّافِ.وَنَقَلَ كَلَامَهُ بِتَمَامِهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ ثُمَّ قَالَ أَبُو حَيَّانَ:أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ تَعَلُّقُ:
{كَمَا} [15/ 90] بِ:
{أَتَيْنَاكَ} [15/ 87]، فَذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي إِيتَاءً كَمَا أَنْزَلْنَا، أَوْ إِنْزَالًا كَمَا أَنْزَلْنَا؛ لِأَنَّ:
{آتَيْنَاكَ} بِمَعْنَى: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ.
.تفسير الآية رقم (94):
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}.أَيْ: فَاجْهَرْ بِهِ وَأَظْهِرُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَدَعَ بِالْحُجَّةِ؛ إِذَا تَكَلَّمَ بِهَا جِهَارًا، كَقَوْلِكَ: صَرَّحَ بِهَا.وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِ مَا أُمِرَ بِهِ عَلَنًا فِي غَيْرِ خَفَاءٍ وَلَا مُوَارَبَةٍ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [5/ 67].وَقَدْ شَهِدَ لَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ امْتَثَلَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَبَلَّغَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [5/ 3]، وَقَوْلِهِ:
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [51/ 54]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.تَنْبِيهٌ.قَوْلُهُ:
{فَاصْدَعْ} [15/ 94]، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهُ مِنَ الصَّدْعِ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: انْصَدَعَ الصُّبْحُ: انْشَقَّ عَنْهُ اللَّيْلُ. وَالصَّدِيعُ: الْفَجْرُ لِانْصِدَاعِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ:
تَرَى السَّرْحَانَ مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ ** كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُأَيْ: فَجْرٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَظْهِرْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ، وَبَلِّغْهُ عَلَنًا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: صَدَعْتُ الشَّيْءَ: أَظْهَرْتُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
وَكَأَنَّهُنَّ رَبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ يَسَرٌ ** يَفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُقَالَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ.وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهُ مِنَ الصَّدْعِ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ وَالشَّقِّ فِي الشَّيْءِ الصُّلْبِ: كَالزُّجَاجِ وَالْحَائِطِ. وَمِنْهُ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [30/ 43]، أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [30/ 14] وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ ذِي الرُّمَّةِ: عَشِيَّةَ قَلْبِي فِي الْمُقِيمِ صَدِيعُهُ وَرَاحَ جَنَابَ الظَّاعِنِينَ صَدِيعُ يَعْنِي: أَنَّ قَلْبَهُ افْتَرَقَ إِلَى جُزْءَيْنِ: جُزْءٍ فِي الْمُقِيمِ، وَجُزْءٍ فِي الظَّاعِنِينَ.وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [15/ 94]، أَيْ: فَرِّقْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ. وَقَوْلُهُ: بِمَا تُؤْمَرُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ سَبْكِ الْمَصْدَرِ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}.فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ: لَا تُبَالِ بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَلَا يَصْعُبُ عَلَيْكَ ذَلِكَ. فَاللَّهُ حَافِظُكَ مِنْهُمْ.وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَعْنَاهَا:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أَيْ: بَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّكَ،
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أَيْ: لَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَخْشَهُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [5/ 67].الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَأْمُورًا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَاتِ السَّيْفِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [6/ 106]، وَقَوْلُهُ:
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} [32/ 30]، وَقَوْلُهُ:
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [53/ 29]، وَقَوْلُهُ:
{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [33/ 48]إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}.بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ كَفَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ. وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ كَفَاهُ غَيْرَهُمْ. كَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ:
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} الْآيَةَ [2/ 137]، وَقَوْلِهِ:
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} الْآيَةَ [39/ 36]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَالْمُسْتَهْزِئُونَ الْمَذْكُورُونَ هُمْ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ.وَالْآفَاتُ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ مَشْهُورَةٌ فِي التَّارِيخِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}.ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِمَا يَقُولُ الْكُفَّارُ فِيهِ مِنَ: الطَّعْنِ، وَالتَّكْذِيبِ، وَالطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ:
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [6/ 33]، وَقَوْلِهِ:
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [11/ 12]، وَقَوْلِهِ:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [18/ 6]، وَقَوْلِهِ:
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [26/ 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْعَامِ.